الشريرة وضناها
كان يبكي بحرقة ذلك الطفل المسكين، مالك عارٍ في هذ البرد، حزين؟ أتائهٌ أنت من أهلك؟ أم أن أهلك هم التائهون؟ فيالحرقة قلبيهما. فكلاهما الآن من المكلومين…
فأطال النظر إليَّ، ثم باغتني، أتعلم من فعلت بي هذا وتركتني؟ إنها أمي، من لجأت لحضنها، هربا من بطش أبي وزوجته، فما كان منها إلا أن استقلت سيارةً وإلى داخلها دفعتني، ولما وصلنا إلى هنا، دون النظر إليَّ ألقتني، ثم عادت من حيث أتت، وهجرتني…
فكدت ألطم خديَّ من خيال هذا الطفل الواسع، فقد حكى لي قصةً، لا تمت بصلةٍ للواقع، فطلبت عنوان أهله، ذلك الطفل البارع، وبعد عناءٍ، وصلنا إلى حارةٍ داخل مكانٍ يسميه هو “شارع”، وطرقت الباب، فإذا بإمرأةٍ قويةٍ، ذات طولٍ فارع.
وما كادت تراه وتراني، حتى انهالت علينا بسبابٍ من قبلُ لم تسمع به آذاني، وأضافت للقصيدة أبياتاً قائلةً: ألم أطردك من قبل مراتٍ لتنساني؟ فلن ترتاح إلا بعد خراب بيتي وطلاقي ليصبح الشارع مكاني، وانهالت على حسانِ، ضرباً ولطماً وهاجت كما الثيرانِ، فانتزعته من يدها معتذراً له؛ فقد كنت أنا الجاني، فلم أصدق أن في الكون أبوين، تجردا من الإنسانية بكل المعاني…
وفي تلك اللحظة… سمعت صراخ طفلٍ، فهبت إليه تهدهده، واندفعت إلى الباب في وجهنا لتوصده، فنزلت السلم محاولاً تجميع ما تبقى من كرامتي أضمده، وسألت حسان: من كان ذاك الطفل الذي شاهده؟ فقال: هو أخي، فعجبت…
كيف لتلك المرأة أن تحمل قلبين في جوفها؟ أحدهما يحمل بغضاً لإبنها، والآخر يحمل حباً يكفي الدنيا كلها، لإبنٍ آخر… فقط ؛ لكونه من زوجها،أيعقل أن تترك ضناها خوفاً على نفسها…
أتضحي بإبنها كي تحيا في ظل ذلك الحقير؟ الذي تزوجها، طارداً ضناها دونما ضمير…
أتأمن على نفسها معه؟ أيأمن هو معها على نفسه داخل الجدران الأربعة؟ أهو صعبٌ على من تضحي بضناها أن تضحي بزوجٍ إمَّعه؟
أتأمن على ذلك الطفل الذي تحمل أن يكون جاحداً مثل أبيه؟ أوليس الله بقادرٍ أن يجعله هو من ينتقم منها لأخيه؟ أو أن يحرمها الله من أن يبارك لها فيه؟
وأخيراً، وبعد طول تفكير، في ذلك المسكين وما سوف يلاقي من مصير، فلن أقدر على تحمل مسؤوليته، وأنا صاحب الكشك الفقير، فأخذته إلى مركزٍ للشرطة، فبعثوه إلى دار رعايةٍ شهير، وكنت دائم الزيارة إليه، فقد نمى بيننا من عند الله حبٌّ كبير…
وذات يومٍ، أعطاني عنوان أبوين سيكفلانه، فقد رأوه، فذكرهما بولديهما الذي فقداه في حادثٍ، فقررا أن يأخذانه؛ ليعوضاه عن أبويه ولينسيهما مصابهما في الولد وفقدانه، ولما زرته، حكى لي عن مدرسته وتفوقه، وفرحته بوالديه وأخدانه، فآمنت بالله وبأنه ما منعه حنان أبويه لحرمانه، وإنما لخيرٍ له سيأتي حتماً، ولكن في أوانه، فسبحان الله وما أعظم شانه…
وذات يومٍ، وجدتها تقف أمامي، هزيلةٌ،ضعيفةٌ، لا تقوى حتى على أن تراني، فسألتها: كيف عرفتي مكاني؟ فقالت: من الورقة التي كنت قد تركتها عندما أتيتني بحسانِ… وسألت عن ذلك الكشك الذي كان بالعنوانِ، فقالوا فتح الله على صاحبه، وأصبح الآن “بقالة الإيمانِ”، فقلت: هذا من فضل ربي، أعطاني من رزقه وأرضاني…
فارتمت عند قدمي وأجهشت في البكاء، وطلبت مني أن ترى إبنها، وأمعنت في الرجاء، فلم يعد لها غيره، ولم يعد لها أبناء، بعد وفاة إبنها بجرعة مخدرٍ زائدةٍ، مع أصدقائه الأشقياء، وعذبها زوجها بسوء معاملته، وزواجه عليها، وخدمتها له ولزوجته الحمقاء، وأخيراً طردها، شر طردةٍ، وتجرعت كأس ظلم إبنها، فيالعدل السماء…
فلما رآها ابنها، رق لحالها، فقد علمه والداه بر أبيه وبرها، وقد أطالا البحث عنها، ولم ييأسا يوماً من إيجادها، وكانا يبثا في قلبه حباً لها، وتسامحاً على أفعالها، بعدما كان يقسم أن لو رآها أمامه، لقتلها…
ولم يتمالك نفسه، وارتمى في حضنها، وشكر والديه على إعانته على برها…
بقلم الكاتبة/نشوة أحمد علي