#محنة_أب
كان بيتهما دافئا بفضل تفاهمهما، “حسن”، و”عزيزة”، وحبهما الذي أسفر عن ولادة كارثتين للبشرية، أنا وأخي، مما أدى إلى معرفة المشاكل طريقها لبيتنا …
كانت أمي تدير شؤون المنزل بكل حزم وقوة، في حين، كان أبي مرتاح البال، غير عابىء بشيء…
لم يتدخل في أي من أمورنا، إلا عندما كان يرى أمي تعاقبنا، معذور أبي؛ فقد كنا لا نظهر أمامه إلا في ثوب البراءة والملائكية…
فمن أين له أن يعرف ما تسببنا فيه من تشوهات لابن جارنا؟ كادت أن تتسبب في عاهة مستديمة له؛ بسبب ما كنا نسميه “مقلب”، لم يقصد به سوى اللعب والدعابة، من أين لأبي أن يعرف مافعلناه في المدرسة من كوارث؟ لتكون النتيجة أسبوع فصل من المدرسة… من أين له أن يعرف أي شيء؟ وهو لم يشغل باله بأي شيء…
كانت أمي تردد دوما: ” لن تعرف قيمتي، إلا بعد فوات الأوان “.
وبالفعل فات الأوان، واكتست جدران البيت كآبة؛ حزنا على فراق رفيقة دربها، من كانت هنا تضحك، وهنا تبكي، وهنا تمزح، وهنا تجري، وهنا تمسح، وهنا تكوي…
وعلا قسمات وجه أبي الهم والحزن وكأنهما يلازمانها منذ ولادته، ذلك الوجه الذي ماعرف أبدا غير تجاعيد الضحك…
ولكن كيف للحياة أن تسير؟ وهو لم يمسك بيده الدفة يوما ليديرها، كيف لسفينته أن تكمل رحلتها، دونما ربان يقودها لبر الأمان؟ هذا ما كانت عمتي تحاول دوما اقناع أبي به…
فكرة الزواج…
لكن أبي كان دائم الرفض لأن يأتي ببديل لأمي…
فكم كان يحبها!!!
وبدأ يتحمل تبعات قراره، عندما قرر تحمل المسؤولية بشجاعة وحده، دون اللجوء لأحد، فكانت بداية الكارثة عند دخوله المطبخ؛ ليجد أكوام الأطباق، فتذمر، وجعل يتوعد من أشار عليه بفكرة الزواج من الأساس، فقد كان ملك زمانه، يحكم ويتأمر…
وظلت أزمات أبي في محاولة إدارة المنزل تتأزم وتتكرر، فتارة يستبدل الملح بالسكر، وتارة ينسى الماء على النار فيتبخر، وطالما سمعته يندب حظه ويتحسر…
كانت كل تلك الأمور سببا في تراجع أبي عما كان يفكر فيه، فلن يضير أمي فكرة زواجه، ولكن فكرة الوفاء تضيرنا، فقد كادت أن تقضي على اليابس والأخضر…
ولكن استمر حظ أبي عاثرا مع النساء أيضا، فمنهن من تطوعت لكي ملابسه، ولكنها عن غير قصد، أحرقتها، ومنهن من أعدت لنا أكلة سمك شهية، وأبت إلا أن يأكل أبي منها؛ ليزداد رصيدها في قلبه، إلا أنه دخل المستشفى على إثرها؛ فقد كان يعاني تحسسا من هذا النوع من الطعام، وإحداهن بنفس صفاء نية الباقيات، أتت لتعد لنا وجبة زكية، فتسببت في ماس كهربائي، كاد أن يودي بالبيت رمادا… وغيرهن وغيرهن…
فكانت كل تلك الأمور سببا في عدول أبي عن فكرة الزواج تماما، فقد آثر أن يحافظ على حياته وحياتنا؛ خوفا من أن نسقط ضحايا حسن نية إحدى عرائسه…
” معك حق، ياعزيزتي، فلم أدرك قيمتك، إلا بعد فوات الأوان”، قال أبي مطرقا، حزينا، نادما، باكيا، منتحبا على حب عمره… ” فهلا عدت عزيزتي؟ هلا عدت؛ لأبثك أشواقي؛ لأقبل يمناك؛ لأعترف لك، أن ليس لي بعد الله سواك، هلا عدت، سلمت وسلمت يداك…وظل ينادي: عزيزة… عزيزة… عزيزااااااااة.
إلى أن انتفض على أثر لكزة في كتفه، ” ماذا بك، ياحسن؟”.
قالتها أمي التي كانت تقف إلى جواره، فمسح أبي وجهه وفرك عينيه، وقال وابتسامة جميلة ترتسم على شفتيه: ” أعتقد أنني قد سرحت قليلا ” ، ثم همس في نفسه: ” الحمدلله “، واستطرد: ” عزيزة……أنا آسف”.
بقلم الكاتبة/نشوة أحمد علي