ترفيهمسلسل غريبه في عالمك

مسلسل غريبه في عالمك الحلقة التاسعة عشر والعشرون

حلقة التاسعة عشر


*الزوج العاذب*
فتح وليد باب شقته, وقد أفسح الطريق لحياة لكي تسبقه اليها, فدخلت حياة بخطى مترددة, بل لولا دخوله خلفها وإغلاقه للباب سريعا كان من الممكن أن تتراجع وتفر هاربة الى بيتها حيث أسرتها الصغيرة التي تشعر بينها بالأمان وهو ما تفتقده بالفعل في تلك اللحظة. أجالت حياة بعينيها في أنحاء الشقة الواسعة فتلك أول مرة تطؤها قدميها, لانها رفضت أن تفعل ذلك في اليوم الذي اختارت فيه فستان الزفاف بعد كلمات وليد المهينة لها. فوجدتها الآن تمتاز بالذوق الرفيع في كل شيء سواء من تناسق الألوان أو فخامة الأثاث وتوزيعه الدقيق في مختلف أنحاء الشقة بحيث يوضح مدى اتساعها وجمالها. ظلت حياة تتأمل محتويات الحجرة بدقة وإعجاب واضحين أبعدها للحظات عن الواقع الذي تعيشه, حتى انتفضت على صوت يهمس في أذنها من الخلف: عجبتك الشقة؟
ابتعدت حياة عنه قليلا وهي تواجهه لتجيب على سؤاله بنبرة تمنت أن تبدو طبيعية: أه, جميلة ورقيقة أوي. ربنا يجعلها فتحة خير عليك ان شاء الله.
صحح لها وليد مشددا: علينا, ولا انتي نسيتي انك مراتي؟
هزتها الكلمة بقوة من الداخل وهو ما حاولت ألا تظهره له, ولكن بدا أن لا شيء يمكنه أن يخفى عن تلك النظرات المتفحصة, أو أن عينيها كانت صادقة اللي أبعد الحدود, حيث سمعته يسألها بنظرات مسددة الى عينيها مباشرة: ايه؟ خايفة؟
وعندما وجدها تغرق في صمت دون أي أمل في الرد, قال: بس ياريت ما يكونش مني.
وعندما اقترب منها وأمسك بيدها شعرت برعشة تسري في كل أنحاء جسمها, ثم قال وهو يسحبها خلفه برفق: تعالي أفرجك على باقي الشقة.
وقادها الى حجرة الصالون ثم الى حجرة الطعام التي تحتوي على طاولة متوسطة الحجم يحيط بها العديد من الكراسي ثم المطبخ وبعده الى حجرة نوم صغيرة وأنيقة أخبرها بأنه قد أعدها للضيوف ممن تحكم الظروف ليبيتوا عندهم ليلة أو أكثر, وأخيرا أدخلها حجرة النوم الرئيسية ذات السرير العريض وخزانة الملابس الكبيرة والتسريحة التي تشغل تقريبا منتصف الحائط, كما أنها تضم أريكة وزوجين من الكراسي ذات المساند المريحة.
اذن فهل جاء وقت تسديد الدين؟ وما ان خطرت على بالها تلك الفكرة حتى ارتعش جسمها تلقائيا, وقد لاحظ وليد ذلك وهو الذي كان يسد منفذ الباب بجسمه الطويل ويستند على الباب بمرفقه فسألها وهو يقترب قليلا منها: ايه؟ بردانة؟
لم يكن سؤالا عاديا, بل كان فيه من السخرية ما جعل الدموع تتجمع في مقلتيها, فهي تعلم حق العلم أنه مدرك تماما لسبب ارتعاشها ولكن سؤاله كان فقط لاستفذاذها وكأن رؤيته لها تتألم سببا أساسيا يكمل به سعادته التي تسببت هي نفسها في انقاصها, ولكن هل ستستسلم له ليذيقها مزيدا من العذاب لن يمكنها تحمله؟
ولكنه ظل ينظر اليها طويلا بصمت فزاد من ارتباكها لذا قررت ان تبدأ بالحديث فمهما كانت كلماته لاذعة فهي أرحم بكثير من ذلك الصمت المطبق الذي يكاد يخنقها, فقالت له وهي تتجنب النظر اليه: على فكرة, انا متشكرة أوي يا باشمهندس.
وكالعادة يقوم بالتصحيح لها: وليد, انا اسمي وليد, مفتكرش يعني ان فيه واحدة بتنادي جوزها وتقوله يا باشمهندس. لكن متشكرة على ايه؟
حياة وهي تبتلع ريقها بصعوبة: على اللي عملته معايا النهاردة, الحقيقة انت طلعت شهم لدرجة ما كنتش متخيلاها, واحد زيك ما كنش قبل على نفسه اتهام زي دة, وكان ممكن يريح نفسه من أي جدل ويقول الحقيقة.
وليد بلهجة موضوعية: وتفتكري ساعتها اني كنت هبقا محط احترام اي حد؟
حياة: ع الاقل ما كنتش هتبقا مضطر انك تحاول تثبت براءتك من تهمة انت مليكش يد فيها.
وليد ونظره مثبت الى عينيها: مش انا اللي أعمل كدة يا حياة, ولو كنت انا الشخص اللي انتي متصوراه دة كان ايه اللي يجبرني اني اتجوزك؟
فسارعت حياة بالنفي: لا انا أسفة .انا ما كنش قصدي كدة. انا كنت أقصد…………
فقاطعها وليد باشارة صارمة من يده وهو يقول: ما يهمنيش أعرف كان قصدك ايه؟ وبعدين أكيد احنا مش هنقضي الليلة كلها في شرح أمور انتهت خلاص.
ثم أشار بيده الى باب أخر بالغرفة وهو يكمل: دة الحمام, ادخلي وغيري هدومك.
وعندما لمس ترددها ووجدها تنظر اليه بارتياب, فسألها ساخرا: ايه؟ مالك؟ ناوية تنامي بالفستان ولا ايه؟
لم ينتظر ردها بل توجه الى خزانة الملابس وهو يقول بلا مبالاة: ع العموم براحتك.
فتح خزانة الملابس وأخرج بعض الثياب الخاصة به وحملها بيديه وهو يتوجه الى خارج الحجرة وعندما مر بحياة القى اليها نظرة سريعة وهو يقول: تصبحي على خير.
راقبته حياة بذهول يغلق الباب خلفه بهدوء وهي لا تصدق ما يحدث. فهل هو حقا قد ترك لها الحجرة؟ لقد قال لها قبل أن يغادر: تصبحي على خير, فهل ذلك يعني أنه قد نوى أن ينام في مكان آخر؟ انها حقا لم تستطع أن تستوعب الأمر برمته, لقد أخبرها قبل الزواج بأنه يريدها, وقد أكدت لها عينيه ذلك بما فيهما من رغبة. اذن فلم تصرف معها على هذا النحو؟ لم هذا العزوف المفاجىء الذي لم تتوقعه منه؟ فهل كان كل ذلك مجرد تمثيل؟ اذن فما الهدف الذ يسعى اليه من وراء ذلك؟ سؤال لن تجيب عنه سوى الأيام.
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
جلست مريم وهي تغلق احدى علب الأدوية بجوار جدها الذي كان مستلقيا على السرير وتقول له: بالشفا ان شاء الله يا جدو.
عبد الرءوف: متشكر أوي يا بنتي, تعبتك معايا. بس جوزك بقا هو اللي أصر اني اجي أقعد معاكم الفترة دي. ويوسف لما بيصر على حاجة ما حدش بيقدر يراجعه حتى أنا.
مريم وهي تقبل جبينه: اوعى تقول كدة تاني يا حبيبي, ربنا يخليك ليا يارب ويقومك لينا بالسلامة. وكمان كان مين غيري يقدر ياخد باله منك؟
عبد الرءوف: كنا نجيب أي ممرضة من المستشفى وخلاص.
مريم بلهجة مشاكسة: اه, قول كدة بقا؟
عبدالرءوف بعدم فهم: أقول ايه؟
مريم: قول انك اتعودت على شغل الممرضات داخلين خارجين عليك, ومين عارف؟ ما ممكن تكون عنيك زاغت على واحدة فيهم, وقررت انك تتخلى عن حياة العزوبية.
ابتسم عبدالرءوف بضعف: الله يجازيكي يا مريم , وهو انا وش كدة بردو؟
مريم: وليه لا بقا يا سي جدو؟ وهو انت كبرت بقا يعني ولا كبرت؟ طب ايه رأيك بقا ان انا فعلا بفكر أجوزك بدل مانت قاعد لوحدك كدة. دة انا حتى لقيتلك العروسة. واحدة صاحبتي. سلمى مانت عارفها. هي صحيح مجنونة حبتين بس طيبة وهتموت على اي عريس والسلام.
فضحك عبد الرءوف وشعرت مريم بالسعادة لانها كانت السبب في تلك الضحكة الصافية من أعز انسان عليها, ثم سمعته يقول لها: طب ياللا روحي نامي بقا , انتي زمانك تعبانة اوي, يوسف قالي انك تقريبا من اول اليوم وانتي واقفة على رجليكي, الا صحيح, هو لسة ما جاش من برة؟
فأجابت مريم بضيق: لا لسة يا جدو. من ساعة ما خرج يوصل اللي اسمها علياء دي وهو لسة ما رجعش.
لمح عبدالرءوف الغيرة بعينيها فزادت ابتسامته وهو يقول: معلش. اكيد فيه حاجة عطلته في الطريق.
فقالت مريم وهي لا تشعر بأن صوتها قد احتد ونبرته قد امتلأت بالغيظ: أو يمكن تكون الست هانم عزمت عليه انه يقعد معاها شوية فهو طبعا مقدرش يقولها لا.
وهنا لم يستطع عبدالرءوف أن يكتم ضحكته. فاغتاظت مريم كثيرا وازادت عينيها اتساعا وهي تقول غضبا: ممكن اعرف انت بتضحك على ايه يا جدو؟
تمالك عبدالرءوف نفسه وهو يقول محاولا تهدئتها: طب انتي متعصبة ليه بس دلوقت؟ يعني كنتي عاوزاه يشوفها في الحالة اللي هي كانت فيها دي, وهي مش قادرة تقف على رجليها , ويسيبها كدة تروح لوحدها؟
مريم متهكمة: لا طبعا ازاي؟ وهو ما بيفوتوش اي واجب.
عبدالرءوف: يا بنتي حرام عليكي, ما تظلميش الراجل, ما انتي كنتي شايفاها بنفسك.
مريم وهي تستمر في تهكمها: اه شفتها, يا عيني كانت بتطوح هنا وهناك وما كنتش قادرة تسند نفسها من الزفت اللي كانت شارباه.
ثم سمعا صوت سيارة تتوقف في الأسفل بحديقة الفيلا. فقال عبد الرءوف لمريم: جوزك جه, يالا بقا قومي وروحي اوضتكم.
ثم أشار نحوها باصبعه محذرا: واوعاكي يا مريم تكلميه في الموضوع دة او حتى تحاولي تتخانقي معاه, الرجالة اللي زي يوسف ما بيحبوش حد يحاسبهم وخصوصا لو كانت مراته.
مريم بدون اهتمام وكأن الامر لا يعنيها: وانا هكلمه ليه يعني؟ وانا مالي؟ يعمل اللي يعجبه ولا يهمني.
ثم أمالت رأسها نحوه وقبلت جبينه بقبلة حانية: تصبح على خير يا جدو.
فرد عبدالرءوف لها القبلة على خدها وهو يقول: وانتي من أهله يا مريم.
ثم تركته مريم وغادرت الحجرة وهي تغلق الباب خلفها, فابتسم عبدالرءوف وهو يعيد الكلمات التي قالتها بسخرية: يعمل اللي يعجبه ولا يهمني؟! ما ابقاش انا عبد الرءوف الكامل لو الليلة دي ما انتهتش بخناقة. والله يكون في عونك بقا يا يوسف. جرب نار الغيرة من اللي بتحبك بقا.
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
دخلت مريم حجرتها لتجد يوسف يخلع الجاكيت الخاص به ويلقيه على احد الكراسي باهمال وهو يخرج صفيرا متناغما من بين شفتيه. وقد كانت عيناه تنطق بالسعادة العارمة جعلت مريم تغلي غضبا وهي تشعر بحاجة ماسة الى البكاء وتقول له: ما لسة بدري. كل دة كنت بتوصلها؟
تلقاها يوسف بابتسامة واسعة: طب قولي مساء الخير الأول, جدك خلاص نام؟
شعرت مريم ببعض المراوغة في سؤاله, فسألته: وكلامك دة بقا اسميه ايه؟ هروب مثلا؟
لم يبد عليه انه على الاستعداد للدخول في اي جدال. فأغمض عينيه قليلا وكأنه يحاول السيطرة على أعصابه ليخرج صوته هادئا مصحوبا بابتسامة رقيقة:هروب! هروب من ايه يا مريم؟
مريم: من سؤالي.
غلبته روح الدعابة وهو يقول متصنعا النسيان: سؤال ايه؟ مش فاكر.
مريم بعصبية وغضب: كنت فين كل دة يا يوسف؟
حاول يوسف ان يمنع الابتسامة من الظهور على شفتيه حيث بدا انه يتلذذ كثيرا برؤيتها على تلك الحال وقرر ان يستمر في مراوغته لها, وهو يقول بجدية مصطنعة: مانتي عارفة كنت بوصل علياء لانها ما كنتش تقدر تسوق وهي في الحالة دي, وما كنش ينفع اني أخليها تركب تاكسي لوحدها.
مريم: اه, انا عارفة كدة كويس بس كمان ما كنتش اعرف ان بيتها بعيد اوي كدة للدرجة اللي تخليك تتأخر أوي بالشكل دة.
يوسف: لا هي شقتها مش بعيدة ولا حاجة. انا بس اللي ما حبتش امشي قبل ما اطمن عليها.
مريم و هي تشتعل غضبا: يااااااااااااه ,للدرجادي؟ طب مادام هي تهمك اوي كدة ما كنت تخليك جنبها احسن وما كنتش تعبت نفسك وجيت.
جاهد يوسف كثيرا لخروج صوته طبيعيا وهو يكتم ضحكته و يدير ظهره لها حتى لا ترى الابتسامة في عينيه: الحقيقة هي طلبت مني دة, بس انا رفضت.
فارتفعت نبرة صوتها وهو يقترب للصراخ تقريبا: وليه رفضت؟ ما كنت تبات عندها أحسن ماهي اكيد مش أول مرة. وانت شكلك مش هتتغير يا يوسف.
بدأ يوسف يضيق ذرعا من هذا الجدال الذي قد اتخذ منحنى جديدا لم يعجبه فبدت نظرته محذرة: مريم! الزمي حدودك, لاني مش هسمحلك تعلي صوتك عليا مرة تانية.
تجاهلت مريم تحذيره واستأنفت تقول بنفس النبرة العالية: امال بتسمح لنفسك انت بس انك تهيني قدام كل اصحابي, وتخرج قدام الناس كلها مع اللي اسمها علياء دي وانت حاطط اديك على وسطها بتسندها وهي كمان رامية راسها على كتفك وكأنها ما صدقت, وكمان تروح شقتها وتتأخر عندها كل دة؟ من غير ما تراعي البني ادمة اللي في البيت ولا كأني مراتك.
يوسف بعيون جامدة توحي بالخطر: بأمارة ايه؟
لم تفهم مريم سؤاله فنظرت اليه بحيرة تسأله: قصدك ايه؟
يوسف موضحا بتأني مشددا على كلة كلمة يتفوه بها: بأمارة ايه بتقولي انك مراتي؟
فشعرت مريم بالارتباك يشوب كلماتها التي تخرج من فمها بدون اقتناع تام بها: قصدي المفروض اني مراتك, و كل الناس عارفة كدة, ودة يخليك مضطر انك تحافظ على شكلي وكرامتي قدامهم, دة حقي عليك.
فور سماعه لكلامها انفجر ضاحكا وكأنها قد ألقت عليه باحدى النكات, مما جعها تنظر اليه مشدوهة بنظرات فارغة لا تدري ان كان يضحك فعلا أو انه يسخر منها؟ ولم يتركها يوسف تنتظر كثيرا حيث قطع ضحكته فجأة ليسألها: انتي متأكدة من اللي بتقوليه دة؟
مريم وقد اهتزت ثقتها بنفسها كثيرا مما جعل كلماتها تخرج مشوشة ولا تحمل أي معنى حقيقي: ايوة طبعا متأكدة.
فاقترب منها يوسف كثيرا وهو يؤكد على كل كلمة يقولها دون أن يحيد بنظره عنها: يعني انتي مستعدة انك تديني حقوقي زي ما بتطالبيني بحقوقك؟
سألت مريم نفسها ان كانت قد فهمت سؤاله بشكل صحيح, حتى توصلت بالفعل الى المعنى الحقيقي وراء كلماته مما جعلها تحملق فيه بعينين متسعتين من شدة الذهول عاجزة عن الرد, و هو أيضا عندما رأى تأثير كلماته عليها لم ينتظر ردهها بل قال لها منهيا حديثه بلهجة جادة تقترب الى الهمس: نصيحة مني يا مريم ما تحاوليش تدخلي في أي جدال معايا لانك أكيد هتطلعي منه خسرانة, تصبحي على خير.
ثم اتجه الى حجرته وأغلق الباب بعنف ليكون صوت الباب هو الوسيلة التي أفاقتها من دهشتها, ولتقر بأنه على حق.
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
في صباح اليوم التالي وقد تعدت الساعة العاشرة, استيقظت حياة من نومها وهي تنظر حولها بدهشة جاهلة بمكان تواجدها, وما هي الا لحظات حتى استعادت أحداث الأمس لتعلم أنها الآن في شقة زوجها الذي ينبذها ولكنه لايزال متمسكا بوجودها معه.
بعد ان نهضت حياة من الفراش و أعادت ترتيب سريرها , ذهبت الى الحمام لتغتسل وتبدل ثيابها, ثم فتحت باب الحجرة بحذر تتلفت يمينا ويسارا تتلمس وجوده في أي مكان, ولكن يبدو انه لا يزال نائما, فقررت أن تذهب الى المطبخ لاعداد الفطور فهي حقا تشعر بالجوع الشديد كما أنها لا تريد أن تكون أول فكرة يكونها عنها في بداية حياتهما الزوجية أنها كسولة, وبخطوات ثابتة توجهت الى المطبخ الذي لاتزال صورته مطبوعة في ذاكرتها حتى الان. وما ان خطت أولى خطواتها داخل الحجرة حتى تراجعت مرة أخرى خطوة للخلف وهي تكتم صرختها, بالطبع فهي لم تتوقع أنه قد سبقها الى المطبخ وقد أعد فطاره بنفسه, وهو الأن يجلس أمام الطاولة الصغيرة التي بالمطبخ ويتناول الفطار, وما إن أحس بدهشتها لرؤيته , رفع حاجبه في تساؤل: اللي أعرفه انهم في الأوقات دي بيقولوا صباح الخير.
ابتلعت حياة ريقها وهي تتغلب على صدمتها سريعا وقالت: صباح الخير, انا اسفة ما كنتش فاكرة انك صحيت.
فقال وليد بعد أن ارتشف بعضا من كوب اللبن أمامه: انا متعود دايما اني أصحى بدري عشان أفطر الاول قبل ما اروح الشغل في ميعادي.
فسألته حياة وهي تجلس أمامه في توجس: وانت هتروح الشغل دلوقت؟
بدا أنه كان في انتظار سؤالها ليرد عليها بسخريته اللاذعة ولكنها كانت قد اعتادت عليها: أولا المفروض ان دة يوم الصباحية وهيبقا شكلنا احنا الاتنين وحش اوي لو نزلت الشغل النهاردة, وثانيا المفروض ان مامتك هتجيلك النهاردة فهتقوليلها ايه بقا لما تسألك فين جوزك؟ ثالثا أنا المفروض اني ببقا موجود في مكتبي الساعة تسعة بالظبط والساعة دلوقت حداشر .
فقالت حياة بابتسامة مترددة: على العموم انا اسفة لاني اتأخرت في النوم فما عملتش الفطار.
وليد بجمود: حصل خير, بس ياريت ما تتكرش تاني, لاني متعود اني لما اصحى بلاقي الفطار جاهز دة غير اني مش بحب اكل برة.
فهزت حياة رأسها في موافقة وهي تقول باستكانة: ان شاء الله مش هتتكرر تاني.
فقال لها وليد في لهجة آمرة أقرب منها للطلب: فيه أكل في التلاجة فلو جعانة قومي جهزي لنفسك حاجة تاكليها.
وبالرغم من أنها تكاد تتضور جوعا الا أنها شعرت بالخجل الشديد لتعترف بذلك,فقررت ألا تفعل لتقول نافية: لا انا مش جعانة دلوقت.
فنظر اليها وليد متشككا ثم قال لها بلهجة حازمة وهو يستند بمرفقيه على الطاولة: بصي يا حياة, احنا مش هنقعد مع بعض مجرد يوم او اتنين, احنا متجوزين وبما ان مش في نيتي اني اطلق في يوم من الايام دة معناه اننا هنعيش مع بعض مدى الحياة ان شاء الله, يعني مفيش داعي لانك تحسي بالاحراج قدامي, لان دي مش هتكون اول ولا اخر مرة ناكل فيها مع بعض, ياللا اتفضلي حضري لنفسك الفطار وتعالي افطري معايا.
علمت حياة بأنه لن يفيد الجدال معه, لذا نهضت لتنفذ الأمر وكانت قد فقدت شهيتها بالفعل.
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
وفي غرفة نوم عبدالرءوف كانت تجلس مريم مرة أخرى بجواره وتسقيه بعض الحساء بيديها في اللحظة التي طرق فيها يوسف باب الحجرة المفتوح ثم تقدم الى الداخل وهو يقول: صباح الخير.
رد الاثنان معا: صباح النور.
وابتسم له عبدالرءوف وهو يقول له مداعبا: نموسيتك كحلي ياسي يوسف, الساعة في ايدك كام دلوقت؟
يوسف بعد أن نظر الى ساعة يده سريعا: الساعة حداشر وربع.
عبدالرءوف مؤنبا: بذمتك مش مكسوف تقولها؟ دة انت لو كنت موظف عندي كنت زماني طردتك من زمان قبل ما الشركة تضيع.
يوسف مبتسما: طب الحمد لله اني مش موظف عندك. ثم ان مفيش حاجة مستعجلة تستاهل اني اروح بدري عشانها, كل الشغل ماشي تمام اطمن.
عبدالرءوف بثقة تامة: ومين قال اني بشك في ادارتك؟ انا عارف ان كل الموظفين بيعملولك ألف حساب في غيابك قبل حضورك. بس قولي عملت ايه في موضوع محمد جمال؟
يوسف بغموض: طلع هو.
عبدالرءوف: وناوي تعمل معاه ايه؟ هتطرده؟
يوسف بابتسامة واسعة: هبقا عبيط لو عملت كدة, باستمراره معانا هستفيد منه أكتر.
عبدالرءوف: طب وكمال, ايه آخر أخباره؟
يوسف: لسة مسافر, وسمعت انه بيتفق على صفقة كبيرة, بس لسة معالمها مش واضحة.
عبدالرءوف: طب خلي بالك بقا.
فأومأ يوسف برأسه وهو يرى نظرات مريم المتسائلة تنتقل بينه وبين جدها, لذلك قرر الهائها بأمر أخر فاستأنف الحديث بلهجة أكثر مرحا: ياللا بقا عاوزين حاجة؟ اصل صاحب الشركة شكله ناويلي على نية, وباين عليا هطرد قريب. امتى بقا وليد يرجع للشغل تاني؟ والله الواد دة كان مريحني. كان هو في ناحية وانا في ناحية, دلوقت حاسس اني مشتت.
عبدالرءوف مازحا: يا أخي حرام عليك, سيبه يتهنى بعروسته شوية, ولا انت عاوزه يقلدك ويسيب عروسته في شهر العسل عشان ينزل الشغل؟
يوسف: لالالالا, هو اصلا ناوي من نفسه انه يقلدني, قالي انه بالكتير أوي تلات ايام ويرجع الشركة. عشان كمان مراته تروح كليتها.
عبدالرءوف ساخرا: انا مش عارف ايه عرسان اليومين دول اللي يا خوية يزهقوا من الجواز والعروسة بعد يوم او اتنين!
نظر يوسف الى مريم نظرة ذات معنى وهو يجيب على عبدالرءوف بتهكمه: معلش بقا يا عمي, الايام ادامنا كتير. ياللا بقا سلام عليكم.
وقبل أن يغادر الحجرة ناداه عبدالرءوف: يوسف!طب مادام انت رايح الشركة ماتاخد مريم في طريقك توديها الجامعة, بدل ما كل واحد منكم يمشي لوحده.
كانت مريم تلوم عبدالرءوف في سرها لاقتراحه هذا الأمر وحاولت التملص من ذلك الموقف وهي تقول متحججة: لا يا جدو شكل يوسف مستعجل وانا هعطله.
عبدالرءوف بالحاح: ولا مستعجل ولا حاجة. مش شايفاه قايم الساعة كام؟ وكمان انتو تقريبا طريقكم واحد دة غير انك جاهزة للخروج, يعني مفيش عطلة ولا حاجة.
مريم بتبرم: بس يا جدو انا مش ممكن امشي قبل ما تخلص فطارك واديك العلاج.
عبدالرءوف سادا أمامها كل منافذ الهروب: انا يا ستي الحمد لله خلاص شبعت, اما بالنسبة للعلاج اهو جنبي وهاخده بنفسي. ياللا ياللا ما تتحججيش بيا.
لم تر مريم أمامها سبيل آخر سوى الاستجابة لطلب جدها فقالت بانهزام أمام عيني يوسف التي تتتبعانها في ترقب: أمرك يا جدو.
ثم نهضت مرغمة لتضع الصينية التي في يدها على طاولة صغيرة في احدى زوايا الحجرة, وقالت لعبدالرءوف: طب انا مش هتأخر عليك, هشوفهم بس وصلوا لايه في المسرحية واذا كانوا محتاجين مني حاجة ولا لا, وبعدين هاجي على طول, وانت لو احتجت اي حاجة في غيابي رن الجرس اللي عندك وام ابراهيم هتطلعلك انا منبهة عليها.
فابتسم عبدالرءوف من دور الأم الذي تحاول مريم ان تؤديه أمامه رغم صغر سنها وهو يقول مطيعا: حاضر يا مريم, بس على فكرة بقا انا خلاص كبرت وأقدر اعتمد على نفسي كويس اوي.
فطبعت مريم قبلة سريعة على وجنته: ربنا يخليك ليا ويديك الصحة يا حبيب قلبي. ياللا بقا مش عاوز حاجة؟
فهز عبدالرءوف رأسه بالنفي: مع ألف سلامة.
وأفسح يوسف لها المجال لتتقدمه بخطوة, ثم خرج الاثنان معا
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
وفي شقة علياء كانت تجلس وهي تستشيط غضبا, و ماهر يحاول تهدئتها: ما خلاص بقا يا لولا . اللي حصل حصل.
علياء وهي تشير باصبعها الى نفسها بتفاخر: بقا انا علياء القوصي ييجي عليا اليوم اللي يرفضني فيه واحد زي يوسف جلال, لا وعشان مين؟ عشان بنت مفعوصة لا راحت ولا جات.
ماهر بعقلانية: ما تنساش بردو ان البنت اللي انتي بتقولي عليها دي تبقا مراته.
علياء: طب وديني ليكون طلاقهم على ايدي وقريب اوي كمان, وبكرة تشوف يا سي يوسف.
ماهر: هيحصل يا علياء. وغلاوتك عندي ليحصل, بس كل حاجة هتيجي في وقتها.
فنهضت علياء فجأة وقالت وهي لاتزال تشتعل غضبا: انا هاين عليا أروح للي اسمها مريم دي دلوقت واديلها الكارت الميموري اللي معايا .
ماهر محذرا: لا اوعي, دة مش وقته, الكارت دة لو ظهر في ميعاد غير ميعاده مش هيكون ليه التأثير اللي احنا عاوزينه.
علياء صائحة: مانا كمان مش قادرة اقف كدة واتفرج وانا ساكتة, وكل ما افتكر شكله وهو بيرفضني احس بنار قايده جوايا, ومش هيطفيها الا لما انتقم لكرامتي.
ماهر: استني بس لما بابا يرجع من السفر, ونتفق على كل حاجة.
علياء: طب وباباك هيرجع امتى؟
ماهر: كلها اسبوع كتير ويخلص الصفقة اللي معاه ويرجع على طول. وبعدها بقا نبتدي اللعب اللي على اصوله.
علياء: طب وانا نصيبي كام من الصفقة الجديدة دي؟
ماهر وهو يمسك يدها ليجلسها بجواره وهو يبتسم: انا كلي ليكي ياروح قلبي, وكل اللي تؤمري بيه هتاخديه. بس انتي شدي حيلك معانا.
علياء: من غير ما تقول, وهو فيه حد بردو بيكره المكسب؟
ثم ادارت جسمها على غفله لتنظر اليه متسائلة: الا قولي صحيح, انت حقيقي ناوي تتجوز مريم دي بعد ما تطلق من يوسف؟
ماهر: طبعا, امال انا بعمل كل دة ليه؟
علياء بتذمر: انا مش عارفة البنت دي عاملة فيكم ايه مخلياكم انتو كلكم بتجروا وراها؟
ماهر مبتسما بخبث: عاملة فينا كتير, كفاية ميراثها من ثروة جدي عبد الرءوف الكامل, عرفتي بقا احنا بنجري وراها ليه؟
علياء بتشكك: يعني انت قصدك ان يوسف متمسك بيها عشان طمعان في نصيبها من الميراث؟
ماهر بثقة: طبعا يا بنتي, زيادة الخير خيرين. هو عاوز يضم شركة عبدالرءوف لشركته وياكل هو السوق كله لوحده بدون اي منازع. وكمان كفاية التسجيل اللي معاكي هو أفضل دليل على صحة كلامي. امال انتي كنتي فاكرة ايه؟
علياء بصوت سارح وكأنها تحدث نفسها و لكن بصوت مسموع: مش عارفة, بس لو صحيح يوسف زي مانت بتقول كدة يبقا ليه عمل معايا اللي عمله امبارح؟ وكأنه كان واحد تاني غير يوسف اللي اعرفه. زي ما يكون اتبدل تماما.

الحلقة العشرون
*رجل بكل الأمزجة*

“فشلت جميع محاولاتي
في أن أفسر موقفي
فشلت جميع محاولاتي
مازلت تتهمينني
كأني هوائي المزاج , ونرجسي
في جميع تصرفاتي
مازلت تعتبرينني
كقطار نصف الليل .. أنسى دائما
أسماء ركابي , ووجه زائراتي
فهواي غيب
والنساء لدي محض مصادفات
مازلت تعتقدين .. أن رسائلي
عمل روائي .. واشعاري
شريط مغامرات
وبأنني استعمل اجمل صاحباتي
جسراً إلى مجدي .. ومجد مؤلفاتي
مازلتي تحتجين أني لا احبك
كالنساء الأخريات”
******نزار قباني******
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
كان كالأسد الجريح يزرع مكتبه ذهابا وإيابا, حسنا فهو بالفعل يعترف بأنه قد أخطأ, ولكنه لم يفعل ذلك إلا لإغاظتها فقط, لمجرد أن يرى ماذا يكمن خلف هذا القناع الجليدي الذي ترتديه؟ ولكنه لم يتصور أن يفلت الزمام من يده بهذا الشكل, فلقد استطاعت أن تجرحه دون أن تدري, هي المرأة الوحيدة التي استطاع كلامها أن يغزو قلبه بتلك الطريقة العنيفة, فلقد تدرب كثيرا على غيرة النساء حتى اكتسب منها مناعة لا بأس بها, ولكن مع مريم كان الأمر مختلفا تماما, وقد حاول أن يعزي ذلك الأمر الى اتهامها المبطن له بالخيانة, ولكنه قرر يوسف ان يكون صريحا مع نفسه أكثر من ذلك, لذا لقد اعترف وان كان امام نفسه فقط بأن ما ازعجه هو علمه بأنها لم تهتم الا بكرامتها ووضعها الاجتماعي وكأنه لأول مرة في حياته يخسر نزالا مع امرأة , ولكنها لن تكون النهاية يا ابنة الكامل. فهي جولة واحدة من جولات عدة أعدك بأنني سأكون فيها الرابح بلا منازع.
سمع طرقات على الباب, أعادته الى الواقع, فجلس على كرسيه خلف المكتب وقد عقد العزم أن يولي كل اهتمامه لعمله: ادخل.
فدخلت السكرتيرة مي وتمسك بيدها ورقة لفتت انتباه يوسف, فرفع نظرة عينيه الى مي بتساؤال: فيه ايه يا مي؟
قدمت مي له الورقة وهي تقول: دة فاكس لحضرتك لسة واصل حالا من لبنان.
أخذ منها الفاكس. وقال لها: طب روحي انتي دلوقت يا مي واطلبيلي فنجان قهوة.
مي: امرك يا فندم.
وبعد ان خرجت السكرتيرة , القى نظرة الى الفاكس يقرأه, وما ان انتهى وضعه أمامه على المكتب وهو يقول محدثا نفسه: ياترى بتخطط لايه يا كمال؟
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
جلست مريم على أحد الكراسي بجوار سرير جدها تسيطر عليها دهشتها وهي تسأل: ممرضة؟! بس انا ازاي ما كنش عندي خبر بالموضوع دة قبل كدة.
جدها باسما: انا كمان ما كنتش اعرف غير لما جات هنا بعد ما مشيتوا بحوالي نص ساعة وقالتلي ان الدكتور عزت هو اللي بعتها بناء على طلب يوسف جوزك.
ففكرت مريم محتارة في أمر ذلك الرجل. فكيف له أن يهتم بأمور الجميع بهذا الشكل في وقت واحد؟ وبالرغم من خلافهما مساء أمس, وكذلك الصمت الرهيب الذي غرقا فيه خلال توصيله لها بسيارته في هذا الصباح, الا انه لم ينسَ أمر جدها, وقام بتدبير ممرضة لتهتم بشئونه في غيابها. لقد أصبح يشكل بالنسبة لها لغزا كبيرا يصعب عليها حله. وفي تلك اللحظة التي كانت تفكر فيه رأته وكأنه يتجسد من أفكارها الى الواقع يسد فتحة الباب بجسمه العريض فارع الطول, ولم تتأكد من انه حقيقة الا عندما سمعت صوته يقول موجها حديثه لجدها وهو يتقدم الى الداخل بلهجته المرحة التي أصبحت واثقة من أنه يستخدمها مع الجميع سواها:عال عال, واضح ان صحتك اتحسنت اول ما شفت الممرضة الجديدة.
تزين ثغر عبدالرءوف بابتسامة هادئة: الله يجازيك يا يوسف. بس تعالى هنا, انت ليه اصلا ما قولتليش موضوع الممرضة دي قبل ما تبعتها؟
يوسف: ما جتش فرصة, انا لسة اصلا مكلم دكتور عزت النهاردة وانا في الشركة.بس بذمتك مش احسن بردو؟
فهز عبدالرءوف رأسه: مفيش فايدة فيك.
وانتبه الجميع لصوت الطرقات الخفيفة على باب الحجرة المفتوح فاتجهت الانظار لتلك الشابة السمراء ذات الشعر الكستنائي الطويل والملامح الهادئة وهي تقول بصوتها الناعم ذات اللهجة الوقورة والتي تمتاز بالحزم تلك الصفة التي تغلب على معظم الممرضات: ميعاد الحقنة يا عبدالرءوف بيه.
فقال لها عبدالرءوف باذعان: أمري لله, ادخلي يا رحمة.
فاقتربت منه رحمة وأخذت تعد الحقنة, وخلال ذلك وبعد تقييم سريع لمظهرها, قال يوسف بابتسامة مداعبة: على فكرة يا آنسة رحمة, انا شكلي كدة هطلب من دكتور عزت انه يبعت حد غيرك.
كادت أن تسقط من يدها الحقنة وهي تسأل وقد فاجأها كلامه للغاية: ليه يا فندم؟ هو انا صدر مني حاجة غلط لا قدر الله؟
يوسف: لا, بس وجودك مع عمي فترة طويلة دة في حد ذاته خطر, مين عارف؟ مش ممكن يعجبه الوضع ويقرر انه يفضل عيان على طول؟ ياريتي انا اللي كنت مكانه.
فضحك كل من عبدالرءوف ورحمة, اما مريم فقد ظلت ملامحها جامدة وهي ترمقه بنظرات مليئة بالسخط كانت تفيض مما بداخلها من غضب.
فقالت رحمة , وقد عادت الجدية الى ملامحها من جديد: طب ممكن لو سمحتوا تخرجوا برة بقا؟
يوسف: أوك يا ستي, ياللا بينا يا مريم بقينا بنطرد.
وعندما خرجا وقد سبقته مريم الى غرفتها, وفور دخوله سمعها تقول ساخرة, وهي تجلس أمام المرآة تحاول الانشغال بسحب الدبابيس من طرحتها حتى لا تبدي اي اهتمام حقيقي: طب ما كنت تاخد رقمها بالمرة.
فسألها يوسف لمجرد ان يتأكد من ان الحديث موجها اليه: تقصدي مين؟
مريم: قصدي رحمة اللي انت كنت عايز تعيا مكان جدي عشان هي تهتم بيك.
حاول يوسف مشاكستها قليلا: لا مانا نسيت أقولك ان دكتور عزت عطاني رقمها عشان كنت هتصل بيها لو اتأخرت.
يبدو ان هذا الشخص دائما يبرز أسوأ ما في طباعها, ولكنها حاولت ضبط انفعالها وهي تبتسم ابتسامة صفراء,وقد انتهت من التخلص من طرحتها وأخذت تحرر شعرها الناري وهي تسأله باستهزاء: طب وياترى بقا ناوي تتصل بيها امتى؟
قرر يوسف مسيارتها في شكوكها دون محاولة منه لنفيها: أكيد لو احتجناها هنضطر نتصل بيها.
نهضت من مكانها لتتجه الى خزانة ثيابها وهي تشعر بغضب شديد وتحاول بكل جهدها ألا تبدي ذلك وهي تقول متهكمة: قصدك لو انت احتجتها.
فبدا الأمر بالنسبة له مسليا للغاية وثغره يعلوه الابتسامة وهو يعقد ذراعيه حول صدره بتحدي: معناه ايه كلامك دة؟ ويا ترى أقدر اعتبره غيرة؟
توترت شفتاها وهي لا تدري بما تجيب, و تحاول ان تشغل نفسها بالعبث بثيابها دون هدف لتجنب مواجهته وهي تقول بنبرة مرتبكة على غير ما أرادت: غيرة؟ من مين؟ وعلى مين أصلا؟
رد يوسف بلهجة واثقة دائما ما حسدته عليها لأن ذلك هو ما تفتقره في معظم مواقفها معه ومن ضمنهم ذلك الموقف الذي زجت بنفسها فيه دون أي حسبان لما قد ينتج عنه: عليا مثلا
فوجدت لسانها دون أن تدري ينطق بتلقائية ليزيد المشكلة تعقيدا: عليك انت؟! ليه؟
وما ان نطقت بتلك الكلمات التي بدا ان يوسف قد اعتبرها جرحا لكرامته وربما انقاصا من رجولته لتجده وقد جذبها من ذراعها فجأة بقوة وعنف لتصبح في مواجته وملاصقة له وقد كتمت صرختها التي كادت تنطلق من هول المفاجأة وكذلك الألم الذي شعرت به يغذو ذراعها نتيجة لأصابعه الممسكة بها وتكاد تنغرز فيه, مما جعلها تقول له وهي غير واعية تماما: انت مجنون؟
فهز رأسه نافيا وهو يقول بهدوء تام متأملا ملامحها بكل دقة وبطء: لا يا مريم, انا مش مجنون. انا جوزك ودي الحقيقة اللي انتي بتحاولي تتجاهليها فياريت بلاش تستفذيني عشان ما تخلنيش أعمل حاجة ممكن نندم عليها احنا الاتنين.
تقاربهما لهذه الدرجة المخيفة والتي لم تتوقعها جعلها ثابتة في مكانها لا تقوَ على الحراك إلى جانب أنها لم تستوعب جزءا كبيرا من كلامه, ولقد لاحظ هو أيضا ذلك فلم يشأ أن يفسد على كل منهما تلك اللحظة الفريدة التي يشعران فيها بالانسجام معا, وقد بدا انهما في عالم خاص بهما يفصهما عن كل ما حولهما, ودون أن يشعر رفع يده ليلمس خدها بظهر يده في مداعبة رقيقة وهو ينظر في عينيها بعمق دون أدنى مقاومة منها, وعندما طال الصمت بينهما, خرج صوته الأجش وهو يقول: مريم! انا………
لم يتم جملته حيث قطعتها طرقات متواصلة على الباب لتخرجهما من عالمهما وتعيدهما الى الواقع من جديد لتبتعد مريم عنه فجأة وكأنها قد أدركت أخيرا ما كان يحدث, ثم سمعته يتمتم بكلمات سريعة غاضبة استوعبت بعضها وقد فهمت منها أنه يشتم ذلك الطارق في داخله, وعندما لاحظ اصرار هذا الشخص سأل بصوت عال ينم عما يعتمر بداخله من غضب: مين؟
فجاءهما صوت رحمة ذات النغمة المبحوحة: انا رحمة يا فندم.
وعندما لاحظ تصلب جسمها وهي تنظر اليه بعينين عاتبتين قرر بأنه من المحتمل أن يطرد تلك الفتاة ان لم يكن الأمر الذي جاءت من أجله على قدر كبير من الأهمية لتقاطعمها في تلك اللحظة بالذات, فذهب ليفتح الباب وحاول أن يبدو صوته لبقا بقدر الامكان: خير يا رحمة؟ فيه ايه؟
رحمة معتذرة: انا اسفة جدا يا فندم, بس عبدالرءوف بيه عاوز حضرتك ومدام مريم في اوضته دلوقت.
يوسف: اوك, روحي انتي, وانا هبلغ مريم ونروحله.
رحمة: أمرك يا فندم.
ورحلت رحمة, ثم أغلق يوسف الباب وهو لا يفكر في شيء سوى كيفية تصليح علاقته بزوجته ليتكرر ذلك التقارب الذي كان بينهما منذ لحظات وقد أفسده كل من عبدالرءوف ورحمة.
وفي غرفة عبدالرءوف الذي كان يجلس تقريبا في سريره ويريح ظهره الى الخلف عندما دخلت عليه مريم مسرعة وقد احتضنته بلهفة وتقول: جدو! مالك يا حبيبي؟
وكأنها تحتمي بحضنه اما من يوسف الذي جاء بعدها على تمهل وإما من تلك المشاعر التي اكتشفتها فجأة عندما كان يحتضنها يوسف منذ قليل, مشاعر لم تكن تعلم بوجودها من قبل كما لم تعلم أيضا سبب ظهورها الآن فقط.
تفاجىء عبدالرءوف من تصرفها وابتسم فجأة وهو يحاول طمئنتها: فيه ايه يا مريم؟ انا كويس يا حبيبتي؟ انتي اللي مالك؟
ابتعدت عنه مريم قليلا ولعدم قدرتها بالطبع على اخباره بالحقيقة, فحاولت ان تراوغ بعض الشيء: ابدا يا حبيبي, انا بس لما رحمة جات وقالتلنا انك عاوزنا, اتخضيت عليك. خير يا حبيبي كنت عاوزنا في ايه؟
تطلع عبدالرءوف الى يوسف الذي كان يقف بعيدا بعض الشيء: ما تقرب يا يوسف. واقف بعيد كدة ليه؟
فاقترب يوسف وقد اختار أن يجلس بجوار مريم التي شعر بتشنجها فور لمسته لها, فقال عبدالرءوف الذي لم تكن تخفى عليه تلك الأمور, ولكنه لم يشأ أن يتدخل في الأمور ليس من حق شخص آخر سوى مريم ويوسف التدخل فيها, ولكنها حفيدته وهو ابن أعز أصدقائه, بل كان يعتبره ابنا قد عوضه الله به عن ابنه الحقيقي, لذا كان يحاول بطريقة غير مباشرة اذابة الحواجز التي بينهما لينعما بالسعادة التي يتمناها لهما من كل قلبه, و من أجل هذا الغرض قال بلهجة تنم عن البراءة التامة: والله يا ولاد أنا بدأت أحس اني عبء عليكم……..
وقبل أن يكمل قاطعته مريم لائمة: اخص عليك يا جدو, ازاي تقول كدة.
عبدالرءوف: اصلي يا بنتي من ساعة ماجيت وقعدت معاكم هنا حسيت اني ربطكم معايا. ودة بردو ما يرضيش ربنا يعني حابسين نفسكم معايا لا بتخرجوا ولا بتشموا هوا. غير يدوب بتنزلوا الا للجامعة أو الشغل.
مريم بمداعبة: وهو احنا كنا اشتكينالك بردو بقا سي جدو؟
أما يوسف الذي يعرفه حق المعرفة فلم تكن لتنطوي عليه تلك الحيلة ولكنه قرر أن يلتزم الصمت ليرى مالذي يبغيه صديقه من تلك اللعبة والتي بدا انها بالفعل قد جاءت على هواه هو أيضا. فاستمر عبدالرءوف باقناع حفيدته بوجهة نظره: يا بنتي ما تنساش بردو انكم لسة عرسان جداد, ودة حقكم, دة غير ان جوزك اصلا مش واخد على الحبسة دي, وفيها ايه يعني لما تخرجوا وتتفسحوا شوية مع بعض؟
مريم بدلال: ازاي بس نخرج نتفسح ونسيبك هنا لوحدك يا جدو؟
عبدالرءوف: يا حبيبتي انا كويس والحمد لله, وكمان معايا رحمة وام ابراهيم, ومجرد ساعتين يعني هتقضوهم برة مش هيبقوا مشكلة.
كانت مريم بالطبع تميل الى الخروج ليس لسبب سوى أنها تريد تأجيل وجودها مع يوسف وحدهما مرة أخرى فأزعنت لطلبه دون ابداء اللهفة التي بداخلها: خلاص اللي تشوفه يا جدو.
فنظر عبدالرءوف الى يوسف الذي لم يرفع عينيه عن مريم بل اكتفى فقط بمراقبة تعبيرات وجهها المختلفة: وانت يا يوسف, ايه رأيك؟
يوسف: انا معنديش مانع طالما مريم موافقة.
فتنهد عبدالرءوف بارتياح: تمام, انا حجزتلكم بالتليفون ترابيزة في مطعم هيعجبكم اوي, بس لازم تكونوا هناك الساعة سبعة يعني يدوب تلحقوا تجهزوا.
فابتسم يوسف وهو يضع ذراعا حول مريم ويضمها اليه بعفوية توحي لآي شخص يراهما للوهلة الاولي بأنهما عاشقين مغرم كل منهما بالآخر: شفتي يا حبيبتي, يعني عمي ما كنش بياخد رأينا ولا حاجة, دة كان مخطط ومرتب وبيبلغنا عشان ننفذ.
اغتصبت مريم ابتسامة لترد عليه بها وهي تصارع ذلك الشعور الغريب الذي أصبح يغمرها كلما اقتربت منه.
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
وفي المطعم الذي أخبرهما به عبدالرءوف استقبلهما النادل بحفاوة وتهذيب بالغين, فعميل كيوسف جلال فخر لكل مكان يدخله, أرشدهما النادل الى الطاولة التي حجزت خصيصا لهما وقد كانت معزولة بعض الشيء في ركن يبعد قليلا عن بقية الطاولات وتنيره إضاءة خفيفة تضفي عليه مزيدا من الخصوصية والجو الرومانسي, وبعد ان اختارا من قائمة الطعام ما يفضلانه وطلبا كوبين من العصير قبل تناول العشاء, تركهما النادل.
فنظرت مريم الى كل ما يحيط بهما باعجاب, وقالت باطراء: فعلا جدو كان عنده حق لما قال ان المكان هيعجبنا.
يوسف مبتسما: جدك من يوم ما عرفته وهو دايما عنده حق.
مريم مشاكسة: طبعا مانت تعرف جدو من زمان.
فقهقه يوسف بصوت خافت, ثم رد عليها ردا أغاظها: تقريبا من قبل مانتي ما تتولدي.
وعندما وجد ملامحها تتبدل ويبدو عليها الغضب فأكمل بلهجة جادة تقريبا: عاوزة توصلي لايه يا مريم؟ عاوزاني أعترف اني راجل عجوز؟ يمكن معاكي حق تقريبا, أصل انا طول عمري بسمع ان الواحدة ممكن تتجوز صديق باباها, لكن دي أول مرة أشوف واحدة بتتجوز صديق جدها.
مريم بلهجة صادقة: اللي زيك يا يوسف عمره ما هيعجز.
يوسف وقد استطاع أن يخفي نظرة الألم السريعة التي ظهرت في عينيه: بس بردو ما تقدريش تنكري فرق السن الكبير اللي بيننا.
مريم: تصدق ان أنا عمري ما حسيت بفرق السن دة من يوم ما عرفتك, صحيح لما جدو كلمني عنك تصورتك راجل كبير وبكرش.
ثم اتجهت عيناها الى شعره: وشعرك كله أبيض أو ع الاقل معظمه, يعني زي كل رجال الاعمال اللي دايما بنشوفهم في التليفزيون.
جعلته يبتسم رغما عنه وهو يقول: انا بجد آسف لاني خيبت ظنك وما طلعتش زيهم.
فبادلته مريم الابتسامة في حين كان يضع النادل أمامهم العصير, وبعد ان رحل سأل يوسف: قوليلي بقا حسيتي بايه بعد ما شوفتيني مختلف عن الصورة اللي كانت في دماغك؟
مريم بعد ان ارتشف قليلا من كوبها: اتصدمت طبعا , واتغظت أوي بصراحة لاني كنت بانية امال كبيرة ع الموضوع دة, كان نفسي الاقي فيك اي عيب أقنع بيه جدي عشان اقدر ارفضك, وخصوصا لما حسيت انك انت كمان كنت واخد عني فكرة معينة مش كويسة.
يوسف موافقا: فعلا, بس أنا بردو معذور بعد ما عرفت انك كنتي عايشة لحد فترة قريبة في بلد أجنبية لها عادات وتقاليد مختلفة تماما عن عاداتنا وتقاليدنا, لكن قوليلي بقا حياتك هناك كانت عاملة ازاي؟
لم يعجبها تماما طريقته في تغيير الموضوع الى جانب اصراره دائما على اختراق عالمها بينما لا يسمح لها هي بذلك, ولكنها أحبت تلك اللحظة من المصارحة التي تحدث بينهما, ومهما حدث فقد قررت الا تضع نهايتها بيدها لذا عزمت على ان تجيب سؤاله بكل مصداقية: طبعا حياتي هناك مش كانت سهلة اوي وخصوصا بعد ما ارتديت الحجاب اللي طبعا كانت ماما رافضاه تماما زي ما كانت رافضة حاجات كتير كنت بعملها و حاجات اكتر كنت مش بحب اعملها.
يوسف: زي ان يكون ليكي boy friend مثلا؟
شعرت مريم باحراج شديد من صراحته المفاجئة لها حيث بدا وكأنه يقرأ أفكارها: اه, كانت اوقات تتضايق لما تلاقيني برفض صداقة الاولاد, الحقيقة مش هي لوحدها كل زمايلي كانوا بيعتبروني شاذة.
ثم نظرت اليه بطرف عينيها لترى وقع كلماتها عليه وعندما رأت بعض العبوس على وجهه سألته بحذر: هو انا قولت حاجة زعلتك؟
فأضاءت الابتسامة وجهه وهو يجيب: تفتكري اني ممكن ازعل وانا بسمع اني أول راجل في حياة مراتي؟
فأفلت لسانها دون أن تدري: بالنسبة لتاريخك النسائي دة يخليني أشك.
وضعت يدها على فمها وهي لا تدري لما تفوهت بتلك الكلمات التي بدا انها لم تهز فيه شعرة واحدة وهو يقول بهدوء: شوفي يا مريم, انا مش هضحك عليكي واقولك اني كنت عايش قبلك حياة الرهبان يعني, صحيح مر بحياتي بعض الستات بس مش بالشكل اللي الصحافة بتتكلم عنه.
مريم: أمال بأي شكل؟
للمرة الثانية يفلت لسانها بكلمات لم تكن لتنطق بها في ظروف أخرى, ولكنها وجدته يتلقى سؤالها بصدر رحب: يعني انا عمري ماكنت دون جوان زي ما بيقولوا, لان كل الستات اللي كنت أعرفهم كانت بتجمع بيني وبينهم المصلحة في الاول وفي الاخر وهما كانوا عارفين كدة كويس.
مريم: حتى علياء؟
يوسف: واشمعنا علياء بالذات؟
حاولت مريم أن تركز انتباهها على كوب العصير بيدها حتى لا يزيد توترها وهي تقول: يعني , يمكن عشان هي دي الوحيدة اللي اتعرفت عليها, وواضح كمان ان علاقتك بيها لسة مستمرة لحد دلوقت.
احتضن يوسف بكفه يدها التي ترتكز على الطاولة, ثم وضع أصابع اليد الأخرى تحت ذقنها ليرفع وجهها اليه برفق وهو يهمس اليها تقريبا: لو كنتي تقصدي الليلة اللي وصلتها فيها فهتصدقيني لو قولتلك اني دخلتها شقتها ومشيت على طول؟
مريم: أمال ايه اللي أخرك كل دة؟
يوسف: كان فيه كمين في الطريق وطبعا ما كنش ينفع أكسره عشان ارجع بدري واتجنب الاستجواب اللي كان في انتظاري… ايه؟ مصدقاني ولا لا؟
كيف لها أن تكذبه ونظرات الصدق تشع من عينيه وتخترق قلبها؟ لذا أومأت برأسها موافقة بابتسمة أسرته, ولكنه عاد الى وضعه الطبيعي عندما لمح النادل يقترب منهما حاملا أطباق العشاء إلى أن انتهى من وضعه أمامهما على الطاولة.
وأمسك يوسف بالشوكة والسكينة مستعدا لتناول طعامه ويقول: على فكرة يا مريم الاكل في المطعم دة لذيذ جدا, يعني حتى لو مكنتيش جعانه, فريحته نفسها هتجوعك.
مريم مازحة وهي تتناول بدورها الشوكة والسكينة: يعني المفروض اني أشمه الاول قبل ما اكل؟
فتبسم يوسف بمرح ظاهر, وكان كل منهما يسعد بتلك اللحظات التي يقضيانها في هذا المكان وقد ذابت معظم الحواجز التي بينهما, ولكن الى متى سيستمر ذلك الصفاء؟ جاءت الاجابة على هذا السؤال سريعة جدا عندما سمعا صوتا ذكوريا مهذبا يقول: مساء الخير.
تطلعت أنظارهما الى صاحب هذا الصوت, فهتفت مريم بصوت خافت من دهشتها: أستاذ خالد؟
أما يوسف فبعد أن ألقى نظرة سريعة الى تعابير وجهها نظر الى خالد وقال بطريقة لبقة: مساء النور. أي خدمة؟
خالد وقد أربكه هذا الاستقبال الغير مرحب على الاطلاق: لا أبد, انا بس حبيت أطمن على مدام مريم, لانها مشت النهاردة وكان شكلها تعبان شوية, ولما شفتها قصدي شفتكم هنا في المطعم قولت أسلم عليكم, وانا اسف لو كنت تسببت في أي ازعاج.
وكان سؤال يوسف الصريح: مين حضرتك؟
فتولت مريم مهمة التعارف وهي تشعر بنظرات يوسف الحادة مصوبة الى كل منهما: أستاذ خالد صلاح معيد في كلية إعلام وهو البطل ادام حياة في المسرحية اللي بنحضرلها.
ثم أشارت إلى يوسف: يوسف جلال جوزي, رجل أعمال.
فمد خالد يده لمصافحته بابتسامة واسعة: أكيد طبعا يوسف بيه غني عن التعريف.
فصافحه يوسف ببرود: تشرفنا يا استاذ خالد. اتفضل اتعشى معانا.
رفض خالد عرضه بتهذيب وهو يشير إلى طاولة تبعد عنهما قليلا وتجلس عليها شابة تقريبا تقريبا أكبر من مريم بسنتين أو ثلاث: متشكر أوي يا فندم ومرة تانية ان شاء الله, ومعلش بقا أستأذن عشان معايا أختي, وألف سلامة عليكي للمرة التانية يا مدام مريم. وياريت بقا نشوفك بكرة في البروفا ان شاء الله, عن اذنكم.
اكتفت مريم بابتسامة باهتة وايماءة بسيطة من رأسها وهي تتوقع استجوابا من زوجها فور رحيله, ولكن عكس ما توقعت فلم يعلق يوسف بشيء ولكن قد اختفى سحر تلك اللحظات التي عاشاها سويا قبل ظهور خالد المفاجىء, وقد أكمل يوسف تناول وجبته بصمت أما هي فقد أجبرت نفسها على تناول القليل من الطعام حيث أنها قد فقدت شهيتها ولم تعلم ما السبب؟
عادا الى الفيلا وقد سبقته مريم الى حجرتها بخطوات واسعة فيما يشبه العدو فقد شعرت بغضب مكبوت بداخله بحاجة الى من يشعل فتيله, وسرعان ما لحق بها, ولقد صدقت تكهناتها حيث أغلق الباب خلفه بعنف وجاءها صوته الهادر يسألها:اسمعي يا مريم انا استنيت لحد ما نرجع بيتنا بس عشان ما اعملش مشاكل في مكان عام, بس دة مش معناه اني موافق على اللي حصل. فممكن تقوليلي بقا مين خالد صلاح دة وايه علاقتك بيه بالظبط؟
الآن فهمت لِمَ لم يعلق على الامر في حينه, فشعرت بالغضب يتسلل اليها بسبب اتهامه غير الصريح, وردت بعنف ثائرة لكرامتها: علاقة ايه اللي انت بتتكلم عليها دي؟ أستاذ خالد دة زي ما قولتلك بالظبط في المطعم هو معيد في كلية اعلام وبطل المسرحية اللي انا بصمم الديكور بتاعها.
لم تهدأ ثورته بعد ولكن قد انخفضت نبرة صوته قليلا: ودة بقا يديله الحق انه أول ما يشوفك في مكان ييجي يسلم عليكي؟
مريم: لا طبعا مش للدرجة, هي كل الحكاية اني النهاردة واحنا شغالين حسيت اني تعبانة شوية, فاستأذنت منهم وروحت بدري , عشان كدة هو أول ما شافني في المطعم كان من الذوق طبعا انه ييجي ويطمن عليا. وأفتكر انه لو كانت نيته حاجة تانية ما كنش جه وهو شايفك قاعد معايا. ودة أكبر دليل على حسن نيته. وبعدين الموضوع ما كنش يستاهل كل اللي انت عملته دة.
خرج صوته باردا بشكل مخيف: ماشي يا مريم, بس اسمعي آخر الكلام بقا, أنا مش عاوز أسمع انك اتكلمتي مع الشخص دة مرة تانية. مفهوم؟
مريم: يعني ايه بقا؟ انت ناسي أصلا اننا بنشتغل مع بعض في مكان واحد؟ يعني الطبيعي انه ممكن يكلمني وأكيد هرد عليه.
يوسف بلهجة حاسمة: يبقا تسيبي المسرحية دي خالص.
لم تصدق مريم ما سمعته أذنيها, بل انها لم تتوقع منه هذا التحكم المفرط في حياتها, لذا لم تستطع اخفاء غضبها: يعني ايه بقا؟ انت اصلا مش ليك الحق انك تطلب مني حاجة زي كدة.
يوسف: اظاهر يا مريم اني لازم أفكرك كل شوية انك مراتي وليا كل الحقوق عليكي.
مريم بتحدٍ ظاهر: وان رفضت؟
يوسف وقد رفض الهزيمة بعنف وهو يرد لها التحدي بنظرة جليدية: انتي أذكى من انك تعانديني يا مريم. واللي قولت عليه هو اللي هيحصل بإرادتك أو غصب عنك.
كانت مريم على يقين بأنه بالفعل يستطيع ارغامها على كل ما يريده فهو من ذلك النوع الذي لا يقبل التحدي وهذا ما يقر به بعض رجال الأعمال الذين يوقعهم حظهم في التعامل معه. ولكنها مثله ترفض الاعتراف بالهزيمة بسهولة فقالت: يعني ايه بقا؟ ناوي تحبسني مثلا؟
يوسف: لو دي كانت الوسيلة الوحيدة قدامي مش هتردد اني اعملها يا مريم.
ثم تركها في حالة من الذهول الشديد ودخل حجرته.
قاسي, عنيف, همجي, تلك هي الألفاظ التي أطلقتها عليه من خلال ذلك الموقف وقد ندمت على اللحظات القليلة التي كانت تصفه فيها باللطف والحنان والسحر.
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
وذات صباح, جلس كل من وليد وحياة أمام مائدة الطعام لتناول وجبة الفطار, وقد كان وليد يرتدي ثيابا للخروج استعدادا لمغادرة المنزل, فبدت حياة مترددة قليلا وهي تقول: وليد.
لم يرد عليها وليد, بل انه لم يلق لها بالا على الاطلاق, فاستمرت وقد شعرت بثقتها تتزعزع بسبب تجاهله المتعمد لها: انا كنت عاوزة اروح الكلية النهاردة. البت سلمى عمالة تزن عليا عشان انزل للبروفات وبتقول اننا كدة مش هنقدر نقدم المسرحية في ميعادها.
ثم صمتت قليلا لترى ردة فعله, ولكنه لم يرفع نظره عن الطبق الذي أمامه, بل لم يبد عليه اطلاقا بأنه قد سمع حديثها, فحاولت أن تعيد ما قالته مرة أخرى بنبرة أعلى: وليد, انا بقولك………..
قاطعها صوته الهاديء: انا سمعت كويس اللي انتي قولتيه, ع العموم معنديش مانع بشرط انك ترجعي بدري.
حياة بإذعان: حاضر.
وليد وقد بدأ ينظر اليها وان كانت نظراته لاتزال باردة الا انها أفضل من تجاهله: هتنزلي امتى؟
حياة: بعد مانت ماتنزل على طول هغير هدومي وأتصل بمريم عشان تعدي عليا.
فقال وليد بلهجة آمرة أكثر منها اقتراح: وليه تخلي مريم تقطع المسافة دي كلها لهنا وبعدين تروح الجامعة؟ انا بقول ان من الافضل اني أوصلك في طريقي, وتقدري تدخلي تغيري هدومك عقبال ما اخلص فطار.
حياة: بس انت كدة ممكن تتأخر. وانت قولتلي انك مش بتحب تتأخر على مواعيد الشغل.
وليد بغموض: لا, النهاردة الوضع اختلف, لاني مش هروح الشغل كموظف.
حياة مستوضحة: يعني ايه؟
وليد: هتعرفي بعدين, ياللا بقا عشان انتي ما تتأخريش.
لم تنزعج من لهجته الأمرة فلقد اعتادت عليها خلال الايام القليلة التي قضتها معه تحت سقف واحد وقد ظل خلالها باردا متحفظا قاسيا في معظم الأوقات, كما انها وبخت نفسها كثيرا على سذاجتها التي جعلتها تعتقد أنه من الممكن أن يشركها في أمر يتعلق به, فهي ليس لها الحق تماما في التدخل في شئون حياته أما هو فله الحق كل الحق في التحكم في كل حياتها.

———–———-———————-————

ونكمل في الحلقات القادمة ماتنسوش تعلقوا علي الحلقة في صفحة مدام طاسة والست حلة

 الى اللقاء في الحلقات القادمة

بقلم الكاتبة: رحاب حلمي

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى